بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً
وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }
الحج27

رسالة مختصرة في الحج وبيان فضله وآدابه
للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في الحج وبيان فضله وآدابه، وما ينبغي لمن أراد السفر لأدائه وبيان مسائل كثيرة مهمة من مسائل الحج والعمرة والزيارة على سبيل الاختصار والإيضاح، قد تحريت فيها ما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعتها نصيحة للمسلمين وعملا بقول الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}الذاريات الآية 5 ،وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}آل عمران الآية 187 ،وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}المائدة الآية 2 .

وكما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدين النصيحة)) ثلاثا قيل لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)). وروى الطبراني عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يمس ويصبح ناصحا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم)).
والله المسئول أن ينفعني بها والمسلمين، وأن يجعل السعي فيها خالصا لوجهه الكريم، وسببا للفوز لديه في جنات النعيم إنه سميع مجيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


فصل في أدلة وجوب الحج والعمرة والمبادرة إلى أدائهما


إذا عرف هذا فاعلموا وفقني الله وإياكم لمعرفة الحق واتباعه، أن الله عز وجل قد أوجب على عباده حج بيته الحرام، وجعله أحد أركان الإسلام الخمسة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}آل عمران الآية 97
وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام)).
وروى سعيد في سننه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين)، وروي عن علي أنه قال: (من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا).
ويجب على من لم يحج وهو يستطيع الحج أن يبادر إليه، لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) رواه أحمد.
ولأن أداء الحج واجب على الفور في حق من استطاع السبيل إليه لظاهر قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}آل عمران الآية 97
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: ((أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا)) أخرجه مسلم.
وقد وردت أحاديث تدل على وجوب العمرة منها قوله صلى الله عليه وسلم في جوابه لجبرائيل لما سأله عن الإسلام قال صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان)) أخرجه ابن خزيمة والدارقطني من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال الدارقطني: هذا إسناد ثابت صحيح.
ومنها حديث عائشة أنها قالت: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: ((عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)) أخرجه أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح.
ولا يجب الحج والعمرة في العمر إلا مرة واحدة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((الحج مرة فمن زاد فهو تطوع)).
ويسن الإكثار من الحج والعمرة تطوعاً لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).

فصل في وجوب التوبة من المعاصي والخروج من المظالم

إذا عزم المسلم على السفر إلى الحج، أو العمرة: استحب له أن يوصي أهله، وأصحابه بتقوى الله عز وجل وهي فعل أوامره، واجتناب نواهيه.
وينبغي أن يكتب ما له، وما عليه من الدين، ويشهد على ذلك، ويجب عليه المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب، لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}النور الآية 31
وحقيقة التوبة: الإقلاع من الذنوب، وتركها، والندم على ما مضى منها، والعزيمة على عدم العود فيها، وإن كان عنده للناس مظالم من نفس، أو مال أو عرض ردها إليهم، أو تحلل منها قبل سفره لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كان عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحلل اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
وينبغي أن ينتخب لحجه وعمرته نفقة طيبة من مال حلال لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا))، وروى الطبراني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور)).
وينبغي للحاج الاستغناء عما في أيدي الناس والتعفف عن سؤالهم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم))، ويجب على الحاج أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة، والتقرب إلى الله بما يرضيه من الأقوال والأعمال في تلك المواضع الشريفة، ويحذر كل الحذر من أن يقصد بحجه الدنيا وحطامها، أو الرياء والسمعة والمفاخرة بذلك، فإن ذلك من أقبح المقاصد وسبب لحبوط العمل، وعدم قبوله كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}هود الآية 15-16 ، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}الإسراء الآيتان 18- 19
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)).
وينبغي له أيضا أن يصحب في سفره الأخيار من أهل الطاعة، والتقوى، والفقه في الدين ويحذر من صحبة السفهاء والفساق.
وينبغي له أن يتعلم ما يشرع له في حجه وعمرته، ويتفقه في ذلك ويسأل عما أشكل عليه ليكون على بصيرة، فإذا ركب دابته أو سيارته أو طائرته أو غيرها من المركوبات استحب له أن يسمي الله سبحانه ويحمده، ثم يكبر ثلاثا ويقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}الزخرف الآيتان 13-14 ،اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل)). لصحة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ويكثر في سفره من الذكر والاستغفار ودعاء الله سبحانه والتضرع إليه وتلاوة القرآن وتدبر معانيه، ويحافظ على الصلوات في الجماعة ويحفظ لسانه من كثرة القيل والقال، والخوض فيما لا يعنيه، والإفراط في المزاح ويصون لسانه أيضا من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بأصحابه وغيرهم من إخوانه المسلمين.
وينبغي له بذل البر في أصحابه وكف أذاه عنهم وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة على حسب الطاقة.

فصل فيما يفعله الحاج عند وصوله إلى الميقات

فإذا وصل إلى الميقات استحب له أن يغتسل ويتطيب، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد من المخيط عند الإحرام، واغتسل، ولما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت).
وأمر عائشة لما حاضت وقد أحرمت بالعمرة أن تغتسل وتحرم بالحج. وأمر صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس لما ولدت بذي الحليفة أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم، فدل ذلك على أن المرأة إذا وصلت إلى الميقات وهي حائض أو نفساء تغتسل وتحرم مع الناس، وتفعل ما يفعله الحاج غير الطواف بالبيت كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأسماء بذلك.
ويستحب لمن أراد الإحرام أن يتعاهد شاربه وأظفاره وعانته وإبطيه، فيأخذ ما تدعو الحاجة إلى أخذه لئلا يحتاج إلى أخذ ذلك بعد الإحرام وهو محرم عليه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شرع للمسلمين تعاهد هذه الأشياء كل وقت كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وقلم الأظفار، ونتف الآباط))، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (وقت لنا في قص الشارب وقلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك ذلك أكثر من أربعين ليلة)، وأخرجه النسائي بلفظ: (وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بلفظ النسائي، وأما الرأس فلا يشرع أخذ شيء منه عند الإحرام لا في حق الرجال ولا في حق النساء.
وأما اللحية فيحرم حلقها أو أخذ شيء منها في جميع الأوقات، بل يجب إعفاؤها وتوفيرها لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين، وفروا اللحى واحفوا الشوارب))، وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)).
وقد عظمت المصيبة في هذا العصر بمخالفة كثير من الناس هذه السنة، ومحاربتهم للحى، ورضاهم بمشابهة الكفار والنساء، ولا سيما من ينتسب إلى العلم والتعليم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يهدينا وسائر المسلمين لموافقة السنة والتمسك بها، والدعوة إليها، وإن رغب عنها الأكثرون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم يلبس الذكر إزارا ورداء، ويستحب أن يكونا أبيضين نظيفين، ويستحب أن يحرم في نعلين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين)) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله.
وأما المرأة فيجوز لها أن تحرم فيما شاءت من أسود أو أخضر أو غيرهما مع الحذر من التشبه بالرجال في لباسهم، لكن ليس لها أن تلبس النقاب والقفازين حال إحرامها، ولكن تغطي وجهها وكفيها بغير النقاب والقفازين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة المحرمة عن لبس النقاب والقفازين.
وأما تخصيص بعض العامة إحرام المرأة في الأخضر أو الأسود دون غيرهما فلا أصل له. ثم بعد الفراغ من الغسل والتنظيف ولبس ثياب الإحرام، ينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريده من حج أو عمرة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))، ويشرع له التلفظ بما نوى، فإن كانت نيته العمرة قال: ((لبيك عمرة)) أو ((اللهم لبيك عمرة)). وإن كانت نيته الحج قال: ((لبيك حجا)) أو: ((اللهم لبيك حجا))؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك والأفضل أن يكون التلفظ بذلك بعد استوائه على مركوبه من دابة أو سيارة أو غيرهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أهل بعد ما استوى على راحلته وانبعثت به من الميقات للسير، هذا هو الأصح من أقوال أهل العلم.
ولا يشرع له التلفظ بما نوى إلا في الإحرام خاصة لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الصلاة والطواف وغيرهما فينبغي له ألا يتلفظ في شيء منها بالنية، فلا يقول: نويت أن أصلي كذا وكذا، ولا نويت أن أطوف كذا، بل التلفظ بذلك من البدع المحدثة والجهر بذلك أقبح وأشد إثما، ولو كان التلفظ بالنية مشروعا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأوضحه للأمة بفعله أو قوله، ولسبق إليه السلف الصالح.
فلما لم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم علم أنه بدعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) أخرجه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق على صحته، وفي لفظ لمسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)).


[center]يتبـــــــــــــــــع ...

فصل في المواقيت المكانية وتحديدها

[/center]